فصل: تفسير الآية رقم (40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [32].
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي: فعلة قبيحة متناهية في القبح. توجب النفرة عن صاحبه، والتفرقة بين الناس: {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي: بئس طريقاً طريقه. فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب، وهيجان الفتن غصباً من غير سبب، والسبب ممكن، وهو الصهر الذي شرعه الله. وقال المهايمي: {سَاء سَبِيلاً} لقضاء الشهوة التي خلقت لطلب النسل، بتضييعه. ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير والتفرقة فقال تعالى مجده:

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [33].
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ} أي: قتلها، وهي نفس الإنسان: {إِلاَّ بِالحَقِّ} أي: إلا بسبب الحق، فيتعلق بـ: {لاَ تَقْتُلُواْ} أو حال من فاعل {لا تقتلوا} أو من مفعوله. وجوَّز تعلقه بـ: {حرَّم} أي: حرَّم قتلها إلا بالحق، وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قوداً بنفس: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} أي: ومن قتل بغير حق، مما تقدم، فقد جعلنا لوليه، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه: {سُلْطاناً} أي: تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يسرف في القتل. أي: فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين، والقاتل واحد، كعادة الجاهلية. كان إذا قبل منهم واحد قتلوا به جماعة. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} تعليل للنهي. والضمير للولي. يعني: حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [34].
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه. وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} غاية جواز التصرف على الوجه الحسن، أي: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} أي: العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضاً. والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} أي: مطلوباً، يطلب من المعاهد الثبات عليه، وعدم إضاعته. أو: صاحبه مسؤول عن نقضه إياه. والمعنى: لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها.

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [35].
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ} أي: أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه: {وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي: بالميزان السوي، بلا اعوجاج ولا خديعة: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل، وإيفاء الحقوق أربابها: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: عاقبة ومآلاً؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة. ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنوي.

.تفسير الآيات (36- 37):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [36- 37].
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تتبعه في قول أو فعل، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل. من: قفا أثره إذا تبعه.
قال الزمخشري: والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولاً ظاهراً؛ لأنه إتباع لما لا يعلم صحته من فساده. انتهى.
ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل، وكشهادة الزور، والقذف، ورمي المحصنات الغافلات، والكذب، وما شاكلها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} أي: كان صاحبها مسؤولاً عما نسب إليها يوم القيامة. أو تُسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها.
قال المهايمي: قدم السمع؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه. وأخر الفؤاد؛ لأنه منتهى الحواس. ولم يذكر بقيتها؛ لأنه لا يخالفها قول أو فعل.
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} أي: مختالاً، أي: مشية المعجب المتكبر؛ إذ لا يفيدك قوةً ولا علواً. كما قال سبحانه: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ} أي: لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها، وشدة وطأتك: {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} أي: لن تحاذيها بتطاولك ومد قامتك، كما يفعله المختال تكلفاً. وفي هذا تهكم بالمختال، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها.
قال الناصر: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية، كفاية في الانزجار عنها. ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا. بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شدَّ طرفاً من رياسة الدنيا، إذا هو يتبختر في مشيه، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون. وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يُقرأ عليه، وقلبه عن تدبره على مراحل. والله ولي التوفيق.

.تفسير الآيات (38- 39):

القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} [38- 39].
{كُلُّ ذَلِكَ} أي: المنهي عنه من قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى هذه الغاية: {كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} قال المهايمي: أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك. وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق، فهو في معنى الشرك. وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية، أحوج ما يكون المرء إليها. ومنع الحقوق بالبخل تفريط، والتبذير والبسط إفراط. وهما مذمومان. والذميم مكروه. والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها... والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه. ونقض العهد مخلٌّ بنظام العالم. وكذا اقتفاء ما لا يعلم. والتكبر من خواص الحق. وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئاً.
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} أي: مما يحكم العقل بصحته، وتصلح النفس بأسوته.
قال المهايمي: أي: من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ} كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه. وأنه رأس كل حكمة وملاكها. ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه.
قال أبو السعود: وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أولاً حيث قيل: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} ورتب عليه ها هنا نتيجة في العقبى فقيل: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً} أي: بالجهل العظيم: {مَّدْحُوراً} أي: مبعداً مطروداً من الرحمة. وفي إيراد الإلقاء، مبنيًّا للمفعول، جري على سنن الكبرياء، وازدراء بالمشرك وجعلٌ له، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه، فيطرحها في التنور. انتهى. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [40].
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}.
خطاب للذين قالوا من مشركي العرب: الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار. قال الزمخشري: والمعنى: أفخصكم ربكم، على وجه الخلوص والصفاء، بأفضل الأولاد وهم الذكور، ولم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ أدونهم، وهن البنات، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن وتقتلونهن. فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم. فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء، وأصفاها من الشوب، ويكون أردؤها وأدونها للسادات. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} أي: بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة المحدثات. ثم بإيثاركم أنفسكم عليه، حيث تجعلون له ما تكرهون.

.تفسير الآيات (41- 42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [41- 42].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} أي: كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة، وبينا فيه من كل مثل: {لِيَذَّكَّرُواْ} أي: ليتعظوا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم: {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي: التصريف المذكور: {إِلاَّ نُفُوراً} أي: عن الحق وبعداً عنه، الذي يقربه وجوه البيان.
وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} أي: قل لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شركاء من خلقه، العابدين معه غيره، ليقربهم إليه زلفى: لو كان الأمر كما تقولون، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه؛ لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه، ويبتغون الزلفى والطاعة لديه، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه. ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه. فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه. بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه. هذا ما اختاره ابن كثير، وسبقه إليه ابن جرير.
وحاصله: أن السبيل بمعنى الوسيلة الموصلة إليه. وفيه إشارة إلى قياس اقتراني تقريره هكذا: ولو كان كما زعمتم معه آلهة لتقربوا إليه. وكل من كان كذلك ليس إلهاً، فهم ليسوا بآلهة. وقيل: معنى: {لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} أي: لطلبوا إليه سبيلاً بالمغالبة والممانعة، كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض، على طريقة قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وهذا الوجه قدمه الزمخشري على الأول. وقال أبو السعود: إنه الأظهر الأنسب لقوله:

.تفسير الآيات (43- 44):

القول في تأويل قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [43- 44].
{سُبْحَانَهُ} فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم، من حيث لا يحتسبون. وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب، فليس مما يختص بهذا التقرير، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون. بل هو أمر يعتقدونه رأساً. انتهى. ومعنى: {سُبْحَانَهُ} أي: تنزه عن الولد والشريك تنزهاً حقيقاً به: {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} أي: تعاظم عن ذلك تعاظماً كبيراً. فإن مثل هذه الفرية والبهتان، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى.
قال الشهاب: وذكر العلو، بعد عنوانه بـ: {ذي العرش}. في أعلى مراتب البلاغة. وقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي: تُنزِّهُ الله، وتُقدسُهُ وتُجلُّهُ السماوات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون. وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته، كما قال: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم: 90- 91]، وقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: لأنها بخلاف لغاتكم.
قال ابن كثير: وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، على أشهر القولين. ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام، والحصا، مما خرج في الصحيحين والمسانيد، مما هو مشهور. واختاره الراغب في مفرداته وقال: إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ودلالة قوله: {وَمَن فِيهنَّ} بعد ذكر السماوات والأرض لا يصح أن يكون تقديره: يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض. لأن هذا ممن نفقهه، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره. ثم يعطف عليه بقوله: {وَمَن فِيهنَّ} والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار. والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار، لما ذكر من الدلالة. انتهى.
وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازي، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية، كنطقت الحال فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود، منزه عن الولد والشريك، كما يدل الأثر على مؤثره. فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه.
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحد

قالوا: والخطاب في قوله تعالى: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} للمشركين. أي: لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم. وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني، الإمام ابن حزم في كتابه الملل والنحل ولا بأس بإيراده، لما فيه من الغرائب.
قال رحمه الله في الرد على من قال: إن في البهائم رسلاً: إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها. قال الله تعالى: {يَا أُولِي الْأَلْبَاب} [البقرة: 179]، وقد علمنا بضرورة الحسن، أن الله تعالى إنما خص بالنطق- الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه، والتصرف في الصناعات على اختلافها- الإنسان خاصة. وأضفنا إليهم، بالخبر الصادق، الجن والملائكة. ثم قال رحمه الله: وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزاً لمثل قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} ونحوه من الآيات. ولا حجة لهم فيه؛ لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن خالف ذلك كان عاصياً لله عز وجل، مبدلاً لكلماته، ما لم يأت نص في أحدهما، أو إجماع متيقن، أو ضرورة حس على خلاف ظاهره، فيوقف عند ذلك. ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسباً الكذب إلى الله عز وجل، أو كاذباً عليه وعلى نبيه عليه السلام، نعوذ بالله من كلا الوجهين.
وإذ قد بينا قبلُ بالبراهين الضرورية، أن الحيوان غير الإنسان والجن والملائكة لا نطق له. نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات. وكان هذا القول مشاهداً بالحس معلوماً بالضرورة، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسِّه، وبيَّنا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا، فإنه ليس تمييزاً. وكان هذا أيضاً يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة، فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقاً وقولاً وتسبيحاً وسجوداً. فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها. وأما معانيها فمختلفة، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا؛ لأنه إن فعل كان مخبراً أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى، ولولاه ما عرفناه.
فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه، بيان ذلك: أن التسبيح عندنا إنما هو قول سبحان الله وبحمده. وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول سبحان الله، بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء. هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل. فإذ لا شك في هذا، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك. فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء. فإذا قد صح هذا، فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث. وليس في العالم شيء إلا وهو دال- بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعاً لا يشبهه- على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص، وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس، كما قال تعالى: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك. وهذا المعنى حق لا ينكره موحد. فإن كان قولنا هذا متفقاً على صحته، وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه.
وأيضاً فإن الله تعالى يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيء، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة، فصح ضرورة أن الكافر يسبح؛ إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى. وإن تسبيحه ليس هو قوله سبحان الله وبحمده بلا شك. ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبهاً لشيء مما خلق. وهذا يقيني لا شك فيه.
فصح بما ذكرنا أن لفظة التسبيح هي من الأسماء المشتركة، وهي التي تقع على نوعين فصاعداً. انتهى كلامه.
ومحصله: نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان. وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره. إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه، فيرجع الخلاف لفظياً. وقد وافق العلم الحديث الآن- كما قاله بعض الفضلاء- على أن في الجماد أثراً من الحياة. وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء. وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب، والدفع، والتأثر بالمؤثرات الخارجية، وتغير قوة التوازن، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة، طبقاً لتراكيب محدودة، وإفراز مركبات كيماوية مختلفة. وبالجملة، فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي: حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، مع كفرهم وقصورهم في النظر. ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم.
ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم، حينما يقرؤه عليهم الرسول، صلوات الله عليه، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه، بقوله تعالى: